الـــسلامـ عــليكمـ ورحمـة الله وبــركاتهـ
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أمـا بعـد :.
فإن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيٌّ بعث الله نبيّاً ، كما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد انقطعت النبوة وذهبت وبقيَ حملةُ ميراث النبوة ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر . رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وصححه الألباني .
وإن من نِعَمِ الله على هذه الأمة أن جعل فيها من يُجدد لها أمر دينها كما أخبر بذلك الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائـة سنة من يجـدد
لها دينها . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
والعلماء هم مصابيح الدُّجى ، وأئمة الهدى .
قال الإمام أحمد – رحمه الله – في مقدمة كتاب الردّ على الجهمية – على ما ذكر ابن القيم – وذكر أن ابن وضّاح نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :
الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يَدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، ومن ضال جاهل قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين ، وتحريف الغالين ، وانتحال المبطلين .
قال ابن القيم – رحمه الله - : ولولا ضمان الله بحفظ دينه وتكفّله بأن يُقيمَ لـه من يجدد أعلامه ، ويُحيى منه ما أماته المبطلون ، ويُنعش ما أخمله الجاهلون ، لهُدِّمت أركانه وتداعى بنيانه ، ولكن الله ذو فضل على العالمين . اهـ .
ولئن كان الناس في أسفارهم يَهتدون بالنجوم في ظلمات البر والبحر ، فإن العلماء هم نجومُ الهداية . بهم يهتدي السالكون إلى الله والدار الآخرة ، فهم مناراتٌ يُهتدى بها ، وإذا غابت النجوم ضل الناس وتاهوا في دياجير ظلمات البر والبحر ، وإذا غاب العلماء عن الساحة ضل الناس وتخبّطوا في ظلمات الشُّبُهات والشهوات .
فَدَوْرُ العلماء كبير ، وشأنهم عظيم ، فهم يُبصِّرون الناس من العمى ، ويدلُّونهم على ما فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة ، ولا أدلّ على ذلك من قصة الرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً فسأل : هل لي من توبة ؟ فدُلَّ على رجل عابدٍ لكنه جاهل ، فحجّر واسعاً وقال : لا ليس لك من توبة ، فأتمّ به المائة ، ثم سأل : هل لي من توبة ؟ فَدُلَّ على عالم ، فقال : نعم ، ومن يحول بينك وبينها ، ثم زاد في إرشاده ، فقال لـه : انْطَلِقْ إِلَىَ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللّهَ فَاعْبُدِ اللّهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِـعْ إِلَىَ أَرْضِكَ فَإِنّهَا أَرْضُ سَوْءٍ .
أو قصة ذلك الدجّال الذي كان يدّعي علم الغيب ، وذلك أن رجلاً كان في مجلس أحد الخلفاء ، وكان بين أيديهم صُرّةً فيها دراهم فكان يخرج من المجلس ويقول : ليأخـذ كـلُّ
واحد منكم حفنةً من الدراهم ثم يَخرج هو ، ويَعُدُّ كلُّ واحدٍ ما أخذ ، ثم يَدخل ويُخبرَهم بما مع كلّ واحد ، فيكون الأمر كما قال ، فتعجّبوا ، حتى دخل أحدُ العلماء ، فأمر ذلك الدجّال أن يخرج ، فخرج ، ثم ادخل العالمُ يده في الصرة وأخرج حفنةً من الدراهم من غير أن يَعُدّها ووضعها في جيبه ، وقال للدجال : أدخل ، فلما دخل أخذ يُخمّن ويتوقّع فلم يدرِ كم معه بالتحديد ، ثم أزال ذلك العالم اللبس ، وأوضح الحقيقة بأن ذلك الدجّال يستخدم الشياطين ، وكلُّ إنسان وُكِّلَ به قرين – كما أخبر بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم - فإذا عدّ الدراهم عدّ معه القرين ، ثم أخبر قرين الساحر أو الكاهن أو العرّاف ، فيُخبر بما أُخبرَ به .
فالعالم ينظر بنور الله ، ويكشف الله على يديه الشُّبهات والمتشابهات .
وقد روى الإمام اللالكائي من طريق الوليد بن هشام عن أبيه قال : بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلا قد ظهر يقول بالقدر وقد أغوى خلقاً كثيرا ، فبعث إليه هشام فاحضره .
فقال : ما هذا الذي بلغني عنك ؟
قال : وما هو ؟
قال : تقول إن الله لم يقدر على خلق الشر ؟
قال : بذلك أقول ، فاحْضِر من شئت يحاجّني فيه .
فإن غلبته بالحجة والبيان علمت أني على الحق ، وإن هو غلبني بالحجة فأضرب عنقي .
قال : فبعث هشام إلى الأوزاعي ، فأحضَره لمناظرته .
فقال له الأوزاعي : إن شئت سألتك عن واحدة ، وإن شئت عن ثلاث ، وإن شئت عن أربع !
فقال : سَلْ عمّا بدا لك .
قال الأوزاعي : أخبرني عن الله عز وجل هل تعلم أنه قضى على ما نهى ؟ قال ليس عندي في هذا شيء .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه واحدة .
ثم قلت له : أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر ؟
قال : هذه أشد من الأولى .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه اثنتان .
ثم قلت له : هل تعلم أن الله أعان على ما حرّم ؟
قال : هذه أشد من الأولى والثانية .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه ثلاث قد حلّ بها ضرب عنقه .
فأمَر به هشام فضُربت عنقه.
ثم قال للأوزاعي : يا أبا عمر فسّر لنا هذه المسائل .
فقال : نعم يا أمير المؤمنين .
سألته : هل يعلم أن الله قضى على ما نهى ؟
نهى آدم عن آكل الشجرة ، ثم قضى عليه فأكلها .
وسألته : هل يعلم أن الله قضى حال دون ما أمر ؟
أمر إبليس بالسجود لآدم ، ثم حال بينه وبين السجود .
وسألته : هل يعلم أن الله أعان على ما حرّم ؟
حرم الميتة والدم ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه .
قال هشام : والرابعة ما هي يا أبا عمرو ؟
قال : كنت أقول : مشيئتك مع الله أم دون الله ؟
فإن قال : مع الله فقد اتخذ الله شريكا ، أو قال : دون الله فقد انفرد بالربوبية ، فأيهما أجابني فقد حلّ ضرب عنقه بها .
قال هشام : حياة الخلق وقِوام الدين بالعلماء .
والعلماء هم صمام الأمن للأمة بإذن الله ، فإذا ذهب العلماء تخبّط الناس في دياجير الظلمات ، واستفتوا من ليس أهلاً للفتوى ، وتصدّر الأوغاد ، ونطق الرويبضة يُحدّث الناس كما أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : تأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخـون فيهـا الأمين وينطق فيهم الرويبضة . قيل : يا رسول الله وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة . رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال ابن حجر : إسناده جيّد ، وحسّنه الألباني .
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يَترك عالما اتخذ الناس رؤساً جهالا فسُئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا .
والعلماء هم أهل البصيرة والنّظر الثاقب ، ولذا كان يُقال : إن الفتن إذا أقبلت لم يعرفها إلا العلماء ، وإذا أدبرت عرفها كلّ أحد .
ولذا جاء في وصف الفتن العظيمة : تدعُ الحليم حيراناً .
بمعنى أنه إذا كان العالم الحازم الحليم يَحارُ في الفتن فغيره من باب أولى .
ولا تُنال الإمامة في الدِّين إلا بالصبر واليقين ، كما قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميّة .
فمن لم يصبر على تعلّمِ العلم لم يفقه في دين الله : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ )
ولما قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كلّه ؟ قال : بنفي الاعتماد ، والسيرِ في البلاد وصبرٍ كصبرِ الجماد ، وبكور كبكور الغراب . ذَكَرَه الخطيب في «الرحلة في طلب الحديث»
والشعبي قال عنه ابن سيرين : لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون .
وإذا تقدّم غير العالم ، وتصدّر الحَدَث كان في ذلك هلاكه وهلاك مَن تبِعه .
ولذا جاء في وصف الخوارج أنهم حدثاء الأسنان ، كما عند البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام : يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة .
قال ابن حجر : قوله : حدثاء الأسنان أي صغارها وسفهاء الأحلام أي ضعفاء العقول .
ولما تطاول الناس في البناء في زمن عمر قال عمر رضي الله عنه : يا معشر العرب الأرض الأرض . إنه لا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ، ولا إمارة إلا بطاعة ، فمن سوّده قومه على الفقه كان حياة له ولهم ومن سوّده قومه من غير فقه كان هلاكا له ولهم . رواه الدارمي
وهذا ما يُشاهد في السنوات الأخيرة فقد لوحظ قبض العلماء ، وأبْرَزَتْ الفضائيات وبعض وسائل الإعلام الأخرى من ليسوا أهلاً للتّصدّر ، ولا يُظنّ أن الفضائيات التي تُتاجِر بالغرائز وإثارة الفتن والشهوات ، وتقذف بالشُّبهات قذفاً مُروّعاً ، لا يُظنّ بها أنها ستُبرِزُ العلماء الصادقين الذين يجب أن تَصْدُرَ الأمة عن رأيهم ، إنما يُبرزون – في الغالب – من يُوافقهم على باطلهم أو على الأقل مَنْ يَسكُت عن عوراتهم ، ويغضّ عنها طرفاً .
فالعلماء الصادقون يُحارَبون من قبل أهل الباطل في كل زمان ومكان ، حيث يُفتون بما لا يُعجب أهل الرّيْب والفساد ، ومن ثم يُرمون عن قوس واحدة بما هم منه براء ، ثم تذهب الليالي والأيام ويبقى للعلماء ذِكرهم وثناء الناس عليهم .
ولا عجب أن تُحارب الدعوات الصادقة وتُلفّق الاتهامات لأصحابها ، كما تعرّضت دعوة الأئمة المجددين ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب ومن سار بسيرهم ، ودعـا بدعوتهم إلى التوحيد ونبذ الشرك ، وإلى تقديم الكتاب والسنة على آراء الرجال .
وكان ابن القيم – رحمه الله – أحد أولئك العلماء الصادقين ، الذين تعرّضوا قديماً وحديثاً إلى النيل من أعراضهم ، بل وإلى إلصاق التُّهم العريضة الذين هم بريئون منها .
وقبل الدخول في سيرته ، وقبل أن أقف مع فوائد هذه السلسة ، وما فيها من تدارُسِ سيَرِ أئمة الهدى ، أودُّ التعريف بابن القيم ، والتفريق بينه وبين ابن الجوزي وسبب الخلط بينهما .
فأولاً : التعريف به – رحمه الله – :
هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي الدمشقي . الشهير بـ ( ابن قيّم الجوزية ) أو ابن القيم اختصاراً .
وُلِد – رحمه الله – سنة إحدى وتسعين وستمائة للهجرة .
وسببُ تسميته بابن قيم الجوزية ، أن والده – رحمه الله – كان قَيِّماً على المدرسة الجوزية بدمشق ، والقيّم هو الناظر أو الوصي ، وهو ما يُشبه المدير في زمننا هذا .
وكان والدُ ابن القيّم من علماء دمشق .
وأما بالنسبة للخلط بينه وبين ابن الجوزي – رحمه الله – فإن سبب ذلك يعود إلى الاشتراك في التّسمية ، حيث إن المدرسة التي كان أبوه قيّماً لها تُنسب لابن الجوزي ، إذ هو واقِفُها ، وهو – أي ابن الجوزي – واعظُ بغداد ، وصاحب المصنّفات الكثيرة ، وهو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبيد الله بن الجوزي القرشي البغدادي ، ت ( 597 هـ ) وهو مُتقدّم على ابن القيم . رحم الله الجميع .
وغَلِطَ في الخلط بينهما بعض الكتاب حتى نسبوا بعض كُتب ابن الجوزي إلى ابن القيّم .
وقد نشأ ابن القيم – رحمه الله – في بيت علم وفضل .
فأبوه وأخوه وابنُ أخيه وابناه عبد الله وإبراهيم كانوا من العلماء البارزين في عصرهم .
أخـلاقـه :
وكان – رحمه الله – صاحبَ هِمّةٍ عالية وخُلُقٍ فاضل .
قال عنه تلميذُه ابن كثير : وكان حسنُ القراءة والخُلُق ، كثير التّودد ، لا يحسِد ُأحداً ولا يؤذيه ، ولا يستعيبه ، ولا يحقد على أحدٍ ، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله ، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة .
وقال عنه تلميذُه الآخر ابن رجب : وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجُّد وطول صلاةٍ إلى الغاية القصوى ، وتألُّهٍ ولهْجٍ بالذِّكر ، وشغفٍ بالمحبة والإنابة والاستغفار ، والافتقار إلى الله والانكسار لـه ... ولا رأيتُ أوسع منه علمـاً ، ولا أعـرف بمعاني القــرآن والسُّنّــة وحقــائق
الإيمان أعلم منه ، وليس هو المعصوم ولكن لم أرَ في معناه مثله .
طلـبُه للعلم :
طلب العلم صغيراً ، فقد بدأ في طلب العلم وعمره سبع سنوات ، كما ذكر ذلك في كتابه النافع الماتع ( زاد المعاد في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم ) فقد ذَكَر أنه سمِع من شيخه الشهاب العابر ، وشيخُه هذا توفي سنة ( 697 هـ ) وابن القيم وُلـِدَ سنة ( 691 ) كما تقدّم .
وكان ابن القيم في أولِ حياته قد تأثّر ببعض أقوال أهل البدع إلى أن قيّض الله لـه شيخَ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – على ما ذَكَرَ هو في النونية حيث قال :
يا قومُ واللهِ العظيم نصيحةٌ *** من مشفق وأخٍ لكم مِعوانِ
جرّبت هذا كلَّه ووقعت في*** تلك الشباك وكنت ذا طيرانِ
حتى أتاح لي الإله بفضله *** من ليس تجزيه يدي ولساني
حبرٌ أتى من أرض حرّان فيا *** أهلا بمن قد جاء من حـران
فالله يجزيه الذي هو أهلُه *** من جنة المأوى مع الرضوان
أخَذّتْ يداه يدي وسار فلم يَرُم *** حتى أراني مَطْلَعَ الإيـمان
ورأيت أعلام المدينة حولها *** نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثارا عظيما شأنُها *** محجوبةً عن زمرة العميان
ووردت رأس الماء أبيض صافيا *** حصباؤه كلالئ التيجان
ورأيت أكوابا هناك كثيرةً *** مثل النجوم لواردٍ ظمآن
ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي *** لا زال يشخب فيه ميزابان
ميزابُ سنتـه وقـولُ إلـهه *** وهما مدى الأيام لا يَنيان
والناس لا يردونه إلا من الـ *** آلاف أفرادا ذوو إيمان
وردوا عِذاب مناهل أكرِم بها *** ووردتم أنتم عذاب هوان
ثم لازم ابنُ القيمِ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية وأخذ عنه الكثير ، وكان أكثر ذلك بعد عودة شيخِ الإسلام من مصر سنة ( 712 هـ ) إلى أن مات شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
قال تلميذه ابن رجب : تفقّه في المذهب ، وبرع وأفتى ، ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وتفنن في علوم الإسلام ، وكان عارفاً في التفسير لا يُجارى فيه ، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى ، والحديث ومعانيه وفقهه ، ودقائق الاستنباط منه لا يُلحق في ذلك .
ومما يدلّ على سعة علمه واطلاعه كثرة مصنّفانه حتى أنه كان يؤلف ويكتب المجلدات في أسفاره .
ومن ذلك أنه ألّف بعض الكتب في أسفاره ، فمن ذلك :
1 – مفتاح دار السعادة .
2 – زاد المعاد .
3 – روضة المحبين .
4 – بدائع الفوائد .
5 – تهذيب سنن أبي داود .
ولا غرابة في ذلك فهو تلميذ الإمام الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
ولا غرابة أن يؤلف ويكتب ويُصنِّف في أسفاره ، فهو بحرٌ لا تُكدِّره الدلاء ، ولا أدل على ذلك من كتابه ( الداء والدواء ) وطُبِع باسم آخر ( الجواب الكافي ) فقد ألّفه إجابة على سؤال واحد وَرَدَ إليه .
ابتلاؤه وامتحانه :
الابتلاء سُنّةٌ ربانية ، وقد سُئل الإمام الشافعي – رحمه الله – :يُبتلى المرء أو يُمكّن لـه ؟
فقال : يُبتلى المرء ثم يُمكّن له ؟
وابن القيّم – رحمه الله – لم يتبوأ تلك المكانة العالية إلا بعد أن ابتُلي .
قال ابن رجب : وقد امتُحِن وأُذيَ مراتٍ وحُبِسَ مع تقيّ الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه ، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ .
كما امتُحن بسبب بعض فتاواه في بعض المسائل التي خالَف فيها علماء عصره ، والتي استبان له فيها الحق أو أنه رأى أن الحقّ فيما ذَهَبَ إليه مما أدّاه اجتهاده إليه .
ومن ذلك أنه أنكر شدّ الرحال إلى قبر الخليل .
قال ابن رجب : وقد حُبِسَ مدةً لإنكاره شدّ الرحال إلى قبر الخليل .
وأفتى في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد أنه يقع طلقة واحدة .
وكان مع ذلك – أي مع مخالفته للمذهب أحياناً - شديد الاحترام للأئمة ، فهو يحكي أقوالهم ، ويستأنس بها لما يختاره .
قال – رحمه الله – : وكثيرا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ، ونقول هذا هو الصواب وهو أولى أن يؤخذ به ، وبالله التوفيق .اهـ .
طريقته في التأليف :
ألفّ ابن القيم – رحمه الله – فكان يعتمد في مؤلفاته على الدليل من الكتاب والسنة ، فلا يُخالف الدليل متابعة للمذهب أو ردّاً للسنة ، حاشاه ذلك ولم يكن هذا من شأن العلماء بل هو من شأن السَّفَلة والبطّالين ، الذين ثَقُلَ عليهم الكتاب والسنة والتنقيب في بطون الكتب .
ثم إنه – رحمه الله – ( كما قال الشيخ الفاضل بكر أبو زيد ) : لا يتهم دليلاً من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة ، أو ناقص الدلالة أو قاصرها ، أو أن غيرَه أولى منه .
قال : ومتى عرض له شيءٌ من ذلك فليتّهم فهمَه ، وليعلم أن البليّة منه .
ثم إنه – رحمه الله – يُقدّم أقوال الصحابة رضي الله عنهم على من سواهم .
ومما يُميّز مؤلفاته – رحمه الله – سعة علمه وشمولية أفكاره .
ومما يُميّز مؤلفات ابن القيم – رحمه الله – حُسنَ الترتيب والسياق ، وهذه ميزةٌ بارزة في مؤلفاته ، لا تكاد تجدها لسواه ، فكلامه مرتّب ، فهو يُعالج القضية التي بين يديه أو التي يُناقشها وكأنها تخصصه وفنّه الذي لا يُتقن سواه ، فهو كما ذكر معالي الشيخ صالح آل الشيخ عن شيخه الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – فإنه قال : شيخ الإسلام يأتي إلى جدار الباطل فيهدمه بضربة واحدة ، وأما ابن القيم فينقضه حجراً حجراً .
ولا يعني هذا أن كلام ابن تيمية – رحمه الله – غير مرتّب ، فمن تأمل كتابه منهاج السنة النبوية أو الجواب الصحيح وغيرهما من كُتُبِه يجد في من ذك الشيء الكثير .
وابن القيم – رحمه الله – أفكاره مرتّبة سواء كان ذلك في الردود أو في تقرير المسائل أو في التقعيد والتأصيل .
ومن ذلك أنه – رحمه الله – لما أراد أن يُدلل على فضل العلم وشرفِه ساق فضله من أكثر من مائةٍ وخمسين وجهاً ، بدأ بالأهم فالأهم ، وذلك في المجلّد الأول من مفتاح دار السعادة ، وقد تقدّم أنه ألّف هذا الكتاب في بعض أسفاره .
ومما امتازت به مصنّفات ابن القيم – رحمه الله – الإنصاف ، فهو يُنصف خصومه وينظر إلى الأمور بعين إنصاف لا بعين هضم لحقوق الآخرين وإسقاط الرموز ، وغمر حسنات الآخرين المخالفين .
لما قـال صاحب منـازل السائرين: اللطيفة الثالثة أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم .
قال – رحمه الله – متعقّباً لـه : هذا الكلام إن اُخذ على ظاهره فهو من أبطل الباطل الذي لولا إحسان الظن بصاحبه وقائله ومعرفة قدره من الإمامة والعلم والدين لنسب إلى لازم هذا الكلام ، ولكن من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ، ومن ذا الذي لم تَـزِلّ به القَدَم
ولم يَكْب به الجواد .
وقال صاحب منازل السائرين في موضع آخر : الرجاء أضعف منازل المريدين ؛ لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه ، وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة وفائدة واحدة نطق بـها التنـزيل والسنة وتلك الفائدة هي كونه يبـرد حرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى اليأس .
فقال – رحمه الله – : شيخ الإسلام (1) حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه وكل من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ونحن نحمل كلامه على أحسن محامِله ثم نبين ما فيه … فأما قوله الرجاء أضعف منازل المريدين فليس كذلك بل هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشرفها وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله ، وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم فقال : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )
وقال في موضع ثالث : شيخ الإسلام – يعني الهروي - حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يقول : عمله خير من علمه ، وصدق -رحمه الله – فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع لا يشقُّ لـه فيها غبار ، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله ، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمـة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم .
وتلك الأخطاء لو وجدها صبيان الصحف لطاروا بها ولطيّروها ، ولَبَنَوْا عليها قصوراً ، ولَشيّدوا عليها منارات ، يظنّون أنهم بهذا الفعل أتوا بما لم تأت به الأوائل !
فهذا شيء من إنصافه ، وله وصيةٌ في ذلك .
قال – رحمه الله – : فإذا أردت الاطلاع على كُنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرِّده من لباس العبارة ، وجرِّد قلبك عن النفرة والميل ثم أعط النظر حقه ، ناظرا بعين الإنصاف ، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تامّاً بكل قلبه ، ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشّزَر والملاحظة ، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ ، والناظر بعين المحبة عكسه ، وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق . اهـ .
فما أحوجنا إلى هذا الأدب من هذا العالِم الرّباني ، وما أحوج الناس إلى الإنصاف ، وطلاّب العلم على وجه الخصوص .
وقد ألّف ابن القيم – رحمه الله – في شتى العلوم ، في التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلله ورجاله والفقه وأصوله ، واللغة ، والسلوك والأخلاق ، وله كتاب في الفروسية ، وله كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل كتاب حافل نافع في بابه لم يُسبق إلى مثله ، أفاد وأجاد فيه ، وله كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الآنام صلى الله عليه وسلم ، وهو كتابٌ فريدٌ في بابه كذلك ، وألّف كُتباً في الفوائد التي كان ينتقيها ويجمعها بين الحين والآخر ، مثل : كتاب بدائع الفوائد ، وكتاب الفوائد .
وكان – رحمه الله – مُغرماً بجمع الكتب ، ولذلك فهو في بعض كُتُبه ينقل أحياناً عن مائة مصدر أو أكثر .
وهو شاعر مُجيد ، وناظم فريد فله القصيدة النونية الموسومة بـ ( الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ) فهي اسم على مُسمّى ( كافيةٌ شافية ) .
وله القصيدة الميميّة .
وله قصائد أخرى أجاد فيها وأفاد .
فمن ذلك قوله :
يا راميا بسهام اللحـظ مجتهـدا *** أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء لـه *** تَوَقَّـــهُ إنـه يرتـــدُّ بالعطــب
ترجو الشفاء بأحداق بـها مرض *** فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومُفْنِيـاً نفسه في إثر أقبحهـــم *** وصفا للطخ جمـال فيه مستلـب
وواهبا عمره في مثل ذا سفهـا *** لو كنت تعرف قدر العمر لم تـهب
وبائعا طيب عيش ما له خطـر *** بطيف عيش مـن الآلام منتَهَـب
غُبِنت والله غبنا فاحشا فلو اسـ *** ترجعت ذا العقـد لم تغبن ولم تخب
وواردا صفـو عيش كلـــه كـدر *** أمامك الورد صفوا ليس بالكـذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا *** لكل داهيـة تدنـو من العطـب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب *** وضـاع وقتك بين اللهـو واللعب
من أبرز تلاميذه – رحمه الله – :
ابن رجب الحنبلي صاحب المصنّفات المفيدة ، فَلَه ( فتح الباري شرح صحيح البخاري) ولكنه لم يُتمّه ، ولو أتمّه لكان أفضل شروح البخاري ، وله كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلِم .
ومن تلاميذ ابن القيم أيضا : ابن كثير صاحب التفسير والتاريخ المسمّى ( البداية والنهاية ) .
ومن تلاميذه كذلك الذهبي صاحب المصنّفات في علوم الحديث والتاريخ والتراجم .
وممن تتلمذ على يديه : السُّبكي ، وابن عبد الهادي ، والفيروز أبادي صاحب القاموس ، وأولاده هو ، وغيرهم .
وفاته – رحمه الله –
توفي – رحمه الله – ليلة الخميس الثالث عشر من شهر رجب من عام واحد وخمسين وسبعمائة للهجرة ، عن ستين سنة .
وصُلِّيَ عليه من الغد بعد صلاة الظهر بالجامع الأموي ثم بجامع جرّاح ، وقد ازدحم الناس على تشييع جنازته .
قال ابن كثير : وقد كانت جنازته حافلة – رحمه الله – شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة ، وتزاحم الناس على حمل نعشه .
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله .
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )
أمـا بعـد :.
فإن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبيٌّ بعث الله نبيّاً ، كما في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد انقطعت النبوة وذهبت وبقيَ حملةُ ميراث النبوة ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم : فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، إنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر . رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، وصححه الألباني .
وإن من نِعَمِ الله على هذه الأمة أن جعل فيها من يُجدد لها أمر دينها كما أخبر بذلك الصادقُ المصدوق صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائـة سنة من يجـدد
لها دينها . رواه أبو داود بإسناد صحيح .
والعلماء هم مصابيح الدُّجى ، وأئمة الهدى .
قال الإمام أحمد – رحمه الله – في مقدمة كتاب الردّ على الجهمية – على ما ذكر ابن القيم – وذكر أن ابن وضّاح نسبه إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :
الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يَدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، ومن ضال جاهل قد هدوه ، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تأويل الجاهلين ، وتحريف الغالين ، وانتحال المبطلين .
قال ابن القيم – رحمه الله - : ولولا ضمان الله بحفظ دينه وتكفّله بأن يُقيمَ لـه من يجدد أعلامه ، ويُحيى منه ما أماته المبطلون ، ويُنعش ما أخمله الجاهلون ، لهُدِّمت أركانه وتداعى بنيانه ، ولكن الله ذو فضل على العالمين . اهـ .
ولئن كان الناس في أسفارهم يَهتدون بالنجوم في ظلمات البر والبحر ، فإن العلماء هم نجومُ الهداية . بهم يهتدي السالكون إلى الله والدار الآخرة ، فهم مناراتٌ يُهتدى بها ، وإذا غابت النجوم ضل الناس وتاهوا في دياجير ظلمات البر والبحر ، وإذا غاب العلماء عن الساحة ضل الناس وتخبّطوا في ظلمات الشُّبُهات والشهوات .
فَدَوْرُ العلماء كبير ، وشأنهم عظيم ، فهم يُبصِّرون الناس من العمى ، ويدلُّونهم على ما فيه نجاتهم في الدنيا والآخرة ، ولا أدلّ على ذلك من قصة الرجل الذي قتل تسعةً وتسعين نفساً فسأل : هل لي من توبة ؟ فدُلَّ على رجل عابدٍ لكنه جاهل ، فحجّر واسعاً وقال : لا ليس لك من توبة ، فأتمّ به المائة ، ثم سأل : هل لي من توبة ؟ فَدُلَّ على عالم ، فقال : نعم ، ومن يحول بينك وبينها ، ثم زاد في إرشاده ، فقال لـه : انْطَلِقْ إِلَىَ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا ، فَإِنّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللّهَ فَاعْبُدِ اللّهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِـعْ إِلَىَ أَرْضِكَ فَإِنّهَا أَرْضُ سَوْءٍ .
أو قصة ذلك الدجّال الذي كان يدّعي علم الغيب ، وذلك أن رجلاً كان في مجلس أحد الخلفاء ، وكان بين أيديهم صُرّةً فيها دراهم فكان يخرج من المجلس ويقول : ليأخـذ كـلُّ
واحد منكم حفنةً من الدراهم ثم يَخرج هو ، ويَعُدُّ كلُّ واحدٍ ما أخذ ، ثم يَدخل ويُخبرَهم بما مع كلّ واحد ، فيكون الأمر كما قال ، فتعجّبوا ، حتى دخل أحدُ العلماء ، فأمر ذلك الدجّال أن يخرج ، فخرج ، ثم ادخل العالمُ يده في الصرة وأخرج حفنةً من الدراهم من غير أن يَعُدّها ووضعها في جيبه ، وقال للدجال : أدخل ، فلما دخل أخذ يُخمّن ويتوقّع فلم يدرِ كم معه بالتحديد ، ثم أزال ذلك العالم اللبس ، وأوضح الحقيقة بأن ذلك الدجّال يستخدم الشياطين ، وكلُّ إنسان وُكِّلَ به قرين – كما أخبر بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم - فإذا عدّ الدراهم عدّ معه القرين ، ثم أخبر قرين الساحر أو الكاهن أو العرّاف ، فيُخبر بما أُخبرَ به .
فالعالم ينظر بنور الله ، ويكشف الله على يديه الشُّبهات والمتشابهات .
وقد روى الإمام اللالكائي من طريق الوليد بن هشام عن أبيه قال : بلغ هشام بن عبد الملك أن رجلا قد ظهر يقول بالقدر وقد أغوى خلقاً كثيرا ، فبعث إليه هشام فاحضره .
فقال : ما هذا الذي بلغني عنك ؟
قال : وما هو ؟
قال : تقول إن الله لم يقدر على خلق الشر ؟
قال : بذلك أقول ، فاحْضِر من شئت يحاجّني فيه .
فإن غلبته بالحجة والبيان علمت أني على الحق ، وإن هو غلبني بالحجة فأضرب عنقي .
قال : فبعث هشام إلى الأوزاعي ، فأحضَره لمناظرته .
فقال له الأوزاعي : إن شئت سألتك عن واحدة ، وإن شئت عن ثلاث ، وإن شئت عن أربع !
فقال : سَلْ عمّا بدا لك .
قال الأوزاعي : أخبرني عن الله عز وجل هل تعلم أنه قضى على ما نهى ؟ قال ليس عندي في هذا شيء .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه واحدة .
ثم قلت له : أخبرني هل تعلم أن الله حال دون ما أمر ؟
قال : هذه أشد من الأولى .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه اثنتان .
ثم قلت له : هل تعلم أن الله أعان على ما حرّم ؟
قال : هذه أشد من الأولى والثانية .
فقلت : يا أمير المؤمنين هذه ثلاث قد حلّ بها ضرب عنقه .
فأمَر به هشام فضُربت عنقه.
ثم قال للأوزاعي : يا أبا عمر فسّر لنا هذه المسائل .
فقال : نعم يا أمير المؤمنين .
سألته : هل يعلم أن الله قضى على ما نهى ؟
نهى آدم عن آكل الشجرة ، ثم قضى عليه فأكلها .
وسألته : هل يعلم أن الله قضى حال دون ما أمر ؟
أمر إبليس بالسجود لآدم ، ثم حال بينه وبين السجود .
وسألته : هل يعلم أن الله أعان على ما حرّم ؟
حرم الميتة والدم ثم أعاننا على أكله في وقت الاضطرار إليه .
قال هشام : والرابعة ما هي يا أبا عمرو ؟
قال : كنت أقول : مشيئتك مع الله أم دون الله ؟
فإن قال : مع الله فقد اتخذ الله شريكا ، أو قال : دون الله فقد انفرد بالربوبية ، فأيهما أجابني فقد حلّ ضرب عنقه بها .
قال هشام : حياة الخلق وقِوام الدين بالعلماء .
والعلماء هم صمام الأمن للأمة بإذن الله ، فإذا ذهب العلماء تخبّط الناس في دياجير الظلمات ، واستفتوا من ليس أهلاً للفتوى ، وتصدّر الأوغاد ، ونطق الرويبضة يُحدّث الناس كما أخبر بذلك من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : تأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ، ويكذب فيها الصادق ، ويؤتمن فيها الخائن ، ويخـون فيهـا الأمين وينطق فيهم الرويبضة . قيل : يا رسول الله وما الرويبضة ؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة . رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقال ابن حجر : إسناده جيّد ، وحسّنه الألباني .
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يَترك عالما اتخذ الناس رؤساً جهالا فسُئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا .
والعلماء هم أهل البصيرة والنّظر الثاقب ، ولذا كان يُقال : إن الفتن إذا أقبلت لم يعرفها إلا العلماء ، وإذا أدبرت عرفها كلّ أحد .
ولذا جاء في وصف الفتن العظيمة : تدعُ الحليم حيراناً .
بمعنى أنه إذا كان العالم الحازم الحليم يَحارُ في الفتن فغيره من باب أولى .
ولا تُنال الإمامة في الدِّين إلا بالصبر واليقين ، كما قال شيخُ الإسلام ابنُ تيميّة .
فمن لم يصبر على تعلّمِ العلم لم يفقه في دين الله : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ )
ولما قيل للشعبي : من أين لك هذا العلم كلّه ؟ قال : بنفي الاعتماد ، والسيرِ في البلاد وصبرٍ كصبرِ الجماد ، وبكور كبكور الغراب . ذَكَرَه الخطيب في «الرحلة في طلب الحديث»
والشعبي قال عنه ابن سيرين : لقد رأيته يستفتى والصحابة متوافرون .
وإذا تقدّم غير العالم ، وتصدّر الحَدَث كان في ذلك هلاكه وهلاك مَن تبِعه .
ولذا جاء في وصف الخوارج أنهم حدثاء الأسنان ، كما عند البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام : يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة .
قال ابن حجر : قوله : حدثاء الأسنان أي صغارها وسفهاء الأحلام أي ضعفاء العقول .
ولما تطاول الناس في البناء في زمن عمر قال عمر رضي الله عنه : يا معشر العرب الأرض الأرض . إنه لا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ، ولا إمارة إلا بطاعة ، فمن سوّده قومه على الفقه كان حياة له ولهم ومن سوّده قومه من غير فقه كان هلاكا له ولهم . رواه الدارمي
وهذا ما يُشاهد في السنوات الأخيرة فقد لوحظ قبض العلماء ، وأبْرَزَتْ الفضائيات وبعض وسائل الإعلام الأخرى من ليسوا أهلاً للتّصدّر ، ولا يُظنّ أن الفضائيات التي تُتاجِر بالغرائز وإثارة الفتن والشهوات ، وتقذف بالشُّبهات قذفاً مُروّعاً ، لا يُظنّ بها أنها ستُبرِزُ العلماء الصادقين الذين يجب أن تَصْدُرَ الأمة عن رأيهم ، إنما يُبرزون – في الغالب – من يُوافقهم على باطلهم أو على الأقل مَنْ يَسكُت عن عوراتهم ، ويغضّ عنها طرفاً .
فالعلماء الصادقون يُحارَبون من قبل أهل الباطل في كل زمان ومكان ، حيث يُفتون بما لا يُعجب أهل الرّيْب والفساد ، ومن ثم يُرمون عن قوس واحدة بما هم منه براء ، ثم تذهب الليالي والأيام ويبقى للعلماء ذِكرهم وثناء الناس عليهم .
ولا عجب أن تُحارب الدعوات الصادقة وتُلفّق الاتهامات لأصحابها ، كما تعرّضت دعوة الأئمة المجددين ابن تيمية وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب ومن سار بسيرهم ، ودعـا بدعوتهم إلى التوحيد ونبذ الشرك ، وإلى تقديم الكتاب والسنة على آراء الرجال .
وكان ابن القيم – رحمه الله – أحد أولئك العلماء الصادقين ، الذين تعرّضوا قديماً وحديثاً إلى النيل من أعراضهم ، بل وإلى إلصاق التُّهم العريضة الذين هم بريئون منها .
وقبل الدخول في سيرته ، وقبل أن أقف مع فوائد هذه السلسة ، وما فيها من تدارُسِ سيَرِ أئمة الهدى ، أودُّ التعريف بابن القيم ، والتفريق بينه وبين ابن الجوزي وسبب الخلط بينهما .
فأولاً : التعريف به – رحمه الله – :
هو أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرعي الدمشقي . الشهير بـ ( ابن قيّم الجوزية ) أو ابن القيم اختصاراً .
وُلِد – رحمه الله – سنة إحدى وتسعين وستمائة للهجرة .
وسببُ تسميته بابن قيم الجوزية ، أن والده – رحمه الله – كان قَيِّماً على المدرسة الجوزية بدمشق ، والقيّم هو الناظر أو الوصي ، وهو ما يُشبه المدير في زمننا هذا .
وكان والدُ ابن القيّم من علماء دمشق .
وأما بالنسبة للخلط بينه وبين ابن الجوزي – رحمه الله – فإن سبب ذلك يعود إلى الاشتراك في التّسمية ، حيث إن المدرسة التي كان أبوه قيّماً لها تُنسب لابن الجوزي ، إذ هو واقِفُها ، وهو – أي ابن الجوزي – واعظُ بغداد ، وصاحب المصنّفات الكثيرة ، وهو أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن عبيد الله بن الجوزي القرشي البغدادي ، ت ( 597 هـ ) وهو مُتقدّم على ابن القيم . رحم الله الجميع .
وغَلِطَ في الخلط بينهما بعض الكتاب حتى نسبوا بعض كُتب ابن الجوزي إلى ابن القيّم .
وقد نشأ ابن القيم – رحمه الله – في بيت علم وفضل .
فأبوه وأخوه وابنُ أخيه وابناه عبد الله وإبراهيم كانوا من العلماء البارزين في عصرهم .
أخـلاقـه :
وكان – رحمه الله – صاحبَ هِمّةٍ عالية وخُلُقٍ فاضل .
قال عنه تلميذُه ابن كثير : وكان حسنُ القراءة والخُلُق ، كثير التّودد ، لا يحسِد ُأحداً ولا يؤذيه ، ولا يستعيبه ، ولا يحقد على أحدٍ ، وبالجملة كان قليل النظير في مجموعه وأموره وأحواله ، والغالب عليه الخير والأخلاق الفاضلة .
وقال عنه تلميذُه الآخر ابن رجب : وكان رحمه الله ذا عبادة وتهجُّد وطول صلاةٍ إلى الغاية القصوى ، وتألُّهٍ ولهْجٍ بالذِّكر ، وشغفٍ بالمحبة والإنابة والاستغفار ، والافتقار إلى الله والانكسار لـه ... ولا رأيتُ أوسع منه علمـاً ، ولا أعـرف بمعاني القــرآن والسُّنّــة وحقــائق
الإيمان أعلم منه ، وليس هو المعصوم ولكن لم أرَ في معناه مثله .
طلـبُه للعلم :
طلب العلم صغيراً ، فقد بدأ في طلب العلم وعمره سبع سنوات ، كما ذكر ذلك في كتابه النافع الماتع ( زاد المعاد في هدي خير العباد صلى الله عليه وسلم ) فقد ذَكَر أنه سمِع من شيخه الشهاب العابر ، وشيخُه هذا توفي سنة ( 697 هـ ) وابن القيم وُلـِدَ سنة ( 691 ) كما تقدّم .
وكان ابن القيم في أولِ حياته قد تأثّر ببعض أقوال أهل البدع إلى أن قيّض الله لـه شيخَ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – على ما ذَكَرَ هو في النونية حيث قال :
يا قومُ واللهِ العظيم نصيحةٌ *** من مشفق وأخٍ لكم مِعوانِ
جرّبت هذا كلَّه ووقعت في*** تلك الشباك وكنت ذا طيرانِ
حتى أتاح لي الإله بفضله *** من ليس تجزيه يدي ولساني
حبرٌ أتى من أرض حرّان فيا *** أهلا بمن قد جاء من حـران
فالله يجزيه الذي هو أهلُه *** من جنة المأوى مع الرضوان
أخَذّتْ يداه يدي وسار فلم يَرُم *** حتى أراني مَطْلَعَ الإيـمان
ورأيت أعلام المدينة حولها *** نزل الهدى وعساكر القرآن
ورأيت آثارا عظيما شأنُها *** محجوبةً عن زمرة العميان
ووردت رأس الماء أبيض صافيا *** حصباؤه كلالئ التيجان
ورأيت أكوابا هناك كثيرةً *** مثل النجوم لواردٍ ظمآن
ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي *** لا زال يشخب فيه ميزابان
ميزابُ سنتـه وقـولُ إلـهه *** وهما مدى الأيام لا يَنيان
والناس لا يردونه إلا من الـ *** آلاف أفرادا ذوو إيمان
وردوا عِذاب مناهل أكرِم بها *** ووردتم أنتم عذاب هوان
ثم لازم ابنُ القيمِ شيخَ الإسلام ابنَ تيمية وأخذ عنه الكثير ، وكان أكثر ذلك بعد عودة شيخِ الإسلام من مصر سنة ( 712 هـ ) إلى أن مات شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
قال تلميذه ابن رجب : تفقّه في المذهب ، وبرع وأفتى ، ولازم الشيخ تقي الدين ابن تيمية ، وتفنن في علوم الإسلام ، وكان عارفاً في التفسير لا يُجارى فيه ، وبأصول الدين وإليه فيها المنتهى ، والحديث ومعانيه وفقهه ، ودقائق الاستنباط منه لا يُلحق في ذلك .
ومما يدلّ على سعة علمه واطلاعه كثرة مصنّفانه حتى أنه كان يؤلف ويكتب المجلدات في أسفاره .
ومن ذلك أنه ألّف بعض الكتب في أسفاره ، فمن ذلك :
1 – مفتاح دار السعادة .
2 – زاد المعاد .
3 – روضة المحبين .
4 – بدائع الفوائد .
5 – تهذيب سنن أبي داود .
ولا غرابة في ذلك فهو تلميذ الإمام الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –
ولا غرابة أن يؤلف ويكتب ويُصنِّف في أسفاره ، فهو بحرٌ لا تُكدِّره الدلاء ، ولا أدل على ذلك من كتابه ( الداء والدواء ) وطُبِع باسم آخر ( الجواب الكافي ) فقد ألّفه إجابة على سؤال واحد وَرَدَ إليه .
ابتلاؤه وامتحانه :
الابتلاء سُنّةٌ ربانية ، وقد سُئل الإمام الشافعي – رحمه الله – :يُبتلى المرء أو يُمكّن لـه ؟
فقال : يُبتلى المرء ثم يُمكّن له ؟
وابن القيّم – رحمه الله – لم يتبوأ تلك المكانة العالية إلا بعد أن ابتُلي .
قال ابن رجب : وقد امتُحِن وأُذيَ مراتٍ وحُبِسَ مع تقيّ الدين في المرة الأخيرة بالقلعة منفرداً عنه ، ولم يُفرج عنه إلا بعد موت الشيخ .
كما امتُحن بسبب بعض فتاواه في بعض المسائل التي خالَف فيها علماء عصره ، والتي استبان له فيها الحق أو أنه رأى أن الحقّ فيما ذَهَبَ إليه مما أدّاه اجتهاده إليه .
ومن ذلك أنه أنكر شدّ الرحال إلى قبر الخليل .
قال ابن رجب : وقد حُبِسَ مدةً لإنكاره شدّ الرحال إلى قبر الخليل .
وأفتى في مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد أنه يقع طلقة واحدة .
وكان مع ذلك – أي مع مخالفته للمذهب أحياناً - شديد الاحترام للأئمة ، فهو يحكي أقوالهم ، ويستأنس بها لما يختاره .
قال – رحمه الله – : وكثيرا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده فنحكي المذهب الراجح ونرجحه ، ونقول هذا هو الصواب وهو أولى أن يؤخذ به ، وبالله التوفيق .اهـ .
طريقته في التأليف :
ألفّ ابن القيم – رحمه الله – فكان يعتمد في مؤلفاته على الدليل من الكتاب والسنة ، فلا يُخالف الدليل متابعة للمذهب أو ردّاً للسنة ، حاشاه ذلك ولم يكن هذا من شأن العلماء بل هو من شأن السَّفَلة والبطّالين ، الذين ثَقُلَ عليهم الكتاب والسنة والتنقيب في بطون الكتب .
ثم إنه – رحمه الله – ( كما قال الشيخ الفاضل بكر أبو زيد ) : لا يتهم دليلاً من أدلة الدين بحيث يظنه فاسد الدلالة ، أو ناقص الدلالة أو قاصرها ، أو أن غيرَه أولى منه .
قال : ومتى عرض له شيءٌ من ذلك فليتّهم فهمَه ، وليعلم أن البليّة منه .
ثم إنه – رحمه الله – يُقدّم أقوال الصحابة رضي الله عنهم على من سواهم .
ومما يُميّز مؤلفاته – رحمه الله – سعة علمه وشمولية أفكاره .
ومما يُميّز مؤلفات ابن القيم – رحمه الله – حُسنَ الترتيب والسياق ، وهذه ميزةٌ بارزة في مؤلفاته ، لا تكاد تجدها لسواه ، فكلامه مرتّب ، فهو يُعالج القضية التي بين يديه أو التي يُناقشها وكأنها تخصصه وفنّه الذي لا يُتقن سواه ، فهو كما ذكر معالي الشيخ صالح آل الشيخ عن شيخه الشيخ عبد الرزاق عفيفي – رحمه الله – فإنه قال : شيخ الإسلام يأتي إلى جدار الباطل فيهدمه بضربة واحدة ، وأما ابن القيم فينقضه حجراً حجراً .
ولا يعني هذا أن كلام ابن تيمية – رحمه الله – غير مرتّب ، فمن تأمل كتابه منهاج السنة النبوية أو الجواب الصحيح وغيرهما من كُتُبِه يجد في من ذك الشيء الكثير .
وابن القيم – رحمه الله – أفكاره مرتّبة سواء كان ذلك في الردود أو في تقرير المسائل أو في التقعيد والتأصيل .
ومن ذلك أنه – رحمه الله – لما أراد أن يُدلل على فضل العلم وشرفِه ساق فضله من أكثر من مائةٍ وخمسين وجهاً ، بدأ بالأهم فالأهم ، وذلك في المجلّد الأول من مفتاح دار السعادة ، وقد تقدّم أنه ألّف هذا الكتاب في بعض أسفاره .
ومما امتازت به مصنّفات ابن القيم – رحمه الله – الإنصاف ، فهو يُنصف خصومه وينظر إلى الأمور بعين إنصاف لا بعين هضم لحقوق الآخرين وإسقاط الرموز ، وغمر حسنات الآخرين المخالفين .
لما قـال صاحب منـازل السائرين: اللطيفة الثالثة أن مشاهدة العبد الحكم لم تدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم .
قال – رحمه الله – متعقّباً لـه : هذا الكلام إن اُخذ على ظاهره فهو من أبطل الباطل الذي لولا إحسان الظن بصاحبه وقائله ومعرفة قدره من الإمامة والعلم والدين لنسب إلى لازم هذا الكلام ، ولكن من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ، ومن ذا الذي لم تَـزِلّ به القَدَم
ولم يَكْب به الجواد .
وقال صاحب منازل السائرين في موضع آخر : الرجاء أضعف منازل المريدين ؛ لأنه معارضة من وجه واعتراض من وجه ، وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة وفائدة واحدة نطق بـها التنـزيل والسنة وتلك الفائدة هي كونه يبـرد حرارة الخوف حتى لا يفضي بصاحبه إلى اليأس .
فقال – رحمه الله – : شيخ الإسلام (1) حبيب إلينا والحق أحب إلينا منه وكل من عدا المعصوم فمأخوذ من قوله ومتروك ونحن نحمل كلامه على أحسن محامِله ثم نبين ما فيه … فأما قوله الرجاء أضعف منازل المريدين فليس كذلك بل هو من أجل منازلهم وأعلاها وأشرفها وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله ، وقد مدح الله تعالى أهله وأثنى عليهم فقال : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )
وقال في موضع ثالث : شيخ الإسلام – يعني الهروي - حبيبنا ولكن الحق أحب إلينا منه ، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – يقول : عمله خير من علمه ، وصدق -رحمه الله – فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجهاد أهل البدع لا يشقُّ لـه فيها غبار ، وله المقامات المشهورة في نصرة الله ورسوله ، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمـة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم .
وتلك الأخطاء لو وجدها صبيان الصحف لطاروا بها ولطيّروها ، ولَبَنَوْا عليها قصوراً ، ولَشيّدوا عليها منارات ، يظنّون أنهم بهذا الفعل أتوا بما لم تأت به الأوائل !
فهذا شيء من إنصافه ، وله وصيةٌ في ذلك .
قال – رحمه الله – : فإذا أردت الاطلاع على كُنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرِّده من لباس العبارة ، وجرِّد قلبك عن النفرة والميل ثم أعط النظر حقه ، ناظرا بعين الإنصاف ، ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تامّاً بكل قلبه ، ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشّزَر والملاحظة ، فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ ، والناظر بعين المحبة عكسه ، وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق . اهـ .
فما أحوجنا إلى هذا الأدب من هذا العالِم الرّباني ، وما أحوج الناس إلى الإنصاف ، وطلاّب العلم على وجه الخصوص .
وقد ألّف ابن القيم – رحمه الله – في شتى العلوم ، في التفسير وعلوم القرآن والحديث وعلله ورجاله والفقه وأصوله ، واللغة ، والسلوك والأخلاق ، وله كتاب في الفروسية ، وله كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل كتاب حافل نافع في بابه لم يُسبق إلى مثله ، أفاد وأجاد فيه ، وله كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الآنام صلى الله عليه وسلم ، وهو كتابٌ فريدٌ في بابه كذلك ، وألّف كُتباً في الفوائد التي كان ينتقيها ويجمعها بين الحين والآخر ، مثل : كتاب بدائع الفوائد ، وكتاب الفوائد .
وكان – رحمه الله – مُغرماً بجمع الكتب ، ولذلك فهو في بعض كُتُبه ينقل أحياناً عن مائة مصدر أو أكثر .
وهو شاعر مُجيد ، وناظم فريد فله القصيدة النونية الموسومة بـ ( الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية ) فهي اسم على مُسمّى ( كافيةٌ شافية ) .
وله القصيدة الميميّة .
وله قصائد أخرى أجاد فيها وأفاد .
فمن ذلك قوله :
يا راميا بسهام اللحـظ مجتهـدا *** أنت القتيل بما ترمي فلا تصب
وباعث الطرف يرتاد الشفاء لـه *** تَوَقَّـــهُ إنـه يرتـــدُّ بالعطــب
ترجو الشفاء بأحداق بـها مرض *** فهل سمعت ببرء جاء من عطب
ومُفْنِيـاً نفسه في إثر أقبحهـــم *** وصفا للطخ جمـال فيه مستلـب
وواهبا عمره في مثل ذا سفهـا *** لو كنت تعرف قدر العمر لم تـهب
وبائعا طيب عيش ما له خطـر *** بطيف عيش مـن الآلام منتَهَـب
غُبِنت والله غبنا فاحشا فلو اسـ *** ترجعت ذا العقـد لم تغبن ولم تخب
وواردا صفـو عيش كلـــه كـدر *** أمامك الورد صفوا ليس بالكـذب
وحاطب الليل في الظلماء منتصبا *** لكل داهيـة تدنـو من العطـب
شاب الصبا والتصابي بعد لم يشب *** وضـاع وقتك بين اللهـو واللعب
من أبرز تلاميذه – رحمه الله – :
ابن رجب الحنبلي صاحب المصنّفات المفيدة ، فَلَه ( فتح الباري شرح صحيح البخاري) ولكنه لم يُتمّه ، ولو أتمّه لكان أفضل شروح البخاري ، وله كتاب جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلِم .
ومن تلاميذ ابن القيم أيضا : ابن كثير صاحب التفسير والتاريخ المسمّى ( البداية والنهاية ) .
ومن تلاميذه كذلك الذهبي صاحب المصنّفات في علوم الحديث والتاريخ والتراجم .
وممن تتلمذ على يديه : السُّبكي ، وابن عبد الهادي ، والفيروز أبادي صاحب القاموس ، وأولاده هو ، وغيرهم .
وفاته – رحمه الله –
توفي – رحمه الله – ليلة الخميس الثالث عشر من شهر رجب من عام واحد وخمسين وسبعمائة للهجرة ، عن ستين سنة .
وصُلِّيَ عليه من الغد بعد صلاة الظهر بالجامع الأموي ثم بجامع جرّاح ، وقد ازدحم الناس على تشييع جنازته .
قال ابن كثير : وقد كانت جنازته حافلة – رحمه الله – شهدها القضاة والأعيان والصالحون من الخاصة والعامة ، وتزاحم الناس على حمل نعشه .